كنت قد تلقيت دعوة كريمة، لحضور مهرجان “المحبس”، الذي يتزامن مع الذكرى ال 49 للمسيرة الخضراء، لتغطية فقراته وللتعرف، عن كثب، على تلك المنطقة الحدودية، التي تزخر بمناظر طبيعية ساحرة، تغري عشاق المغامرة، كحالاتي، بزيارتها، ورغم أنها الأقرب من ” تندوف” وثكنات ميليشيات “البوليساريو”، فلبيت الدعوة.
“المحبس”، المنطقة التي لم يمانع نظام العسكر بأن يشملها الحزام الدفاعي المغربي، والخطأ القاتل الذي لم تشعرالجزائر بفداحته الا عندما انتهى المغرب من إتمام أشغال الحزام سنة 1985، وهي ايضا الموقع الاستراتيجي الذي عرف مقامه المغرب، فاشتغل عليه بهدوء وروية وطول نفس، مع كثير من الصبر والذكاء، ليكشفه في السنوات الأخيرة التخطيط الترابي للجهات، بعد اخراج الجماعة من منطقة النزاع وإلحاقها بجهة كلميم واد نون.
ولمهرجان المسيرة الخضراء الفضل في التعريف بهذه المنطقة، فقبله لم يكن ليعلم بوجود “المحبس” غير أهل”آسا” و”الزاك” و”السمارة” وميليشيات “البوليساريو”، ولولاه لما حج المئات الى تلك المنطقة الحدودية، مرورا بعدد من الجماعات الترابية، مستكشفين خبايا جمال مدفون، عبر كل تلك المساحات الشاسعة الزاخرة بالمناظر الطبيعية الخلابة.
استقبلت وأقمت ب”آسا”، وأثناء مقامي هناك، قبل توجهي رفقة المتوجهين صوب ” المحبس”، كانت تصلني منمنمات أخبار كتلك الأخبار التي مل ابناء الصحراء من زيفها، وإشاعات تسري في الفيسبوك كما تسري النار في الهشيم، كانت نفس الأخبار والإشاعات التي أطلقت قبل النسختين السابقتين ولم يحدث شيء، ثم إن هناك اتفاقية لوقف اطلاق النار، واعتراف دولي متزايد بمغربية الصحراء، صحيح أن الميليشيات كانت تخرق الاتفاقية من حين لآخر وتستهدف الوحدات العسكرية، لكن لم أكن أظنها ستجرأ على استهداف المدنيين العزل.
في الصباح، تجولت بي السيارة قليلا ب”آسا”، قبل شد الرحال الى” المحبس”، الشوارع والطرقات مزينة بالأعلام الوطنية، الهدوء والسلام لا يعلو عليهما شيء عدا البهجة، والساكنة وكأنها على موعد مع “أموكار” اخر، أجواء احتفالية وفرحة بين الأطفال والنساء، لم يكن الأمر كما في مدينة العيون، هنا أشعر وكأن الساكنة لا تضيع أي فرصة للاحتفال والفرح، يستمتعون باللحظة، ويتفكهون بالتهديدات.
كانت بعض الجموع تصطف على الطرقات بحثا عن “توصيلة” الى مكان الاحتفال، رغم ما شيع عن وقوع قذائف صباح ذلك اليوم، والبعض كان يمازحني ضاحكا: ” ياك ما تخافي من الدلاح أستاذة؟”، و” الدلاح” هنا بين ابناء المنطقة يعني قذائف ميليشيات “البوليساريو” والجيش الجزائري، الأمر لم يكن يخيفهم بل يتندرون به.
من “اسا” الى “المحبس، طرق معبدة بإتقان، تلال وهضاب وجبال، خضرة وماء ووحيش، جمال يحبس الانفاس، شعور بالسلام يخالجك، روعة لا تملك إلا أن تسبح بحمد ربك أمامها، سحر يجعلك يجعلك تطلق شهقات الانبهار غصبا عنك، هذا كان في منتصف النهار، فكيف سيكون ليلا،عندما يسدل الليل رداءه الأبنوسي المطرز بالنجوم البراقة؟.
وصلنا إلى “المحبس”، لم أرافق الوفد، كنت أريد أن أتحرك بأريحية، وفي الاستقبال أعطاني رئيس جماعة ترابية لثامين، أحدهما أحمر والآخر أخضر فحملتهما على ساعدي، متقية شمس “المحبس” بمذكرتي الشخصية، ثم شققت طريقي بين الفرق الموسيقية المصطفة على جنبات الشارع، رامية البصر تارة نحو اليمين و تارة نحو الشمال، في محاولة مني لاستكشاف الجماعة.
قطعت الشارع المعبد إلى نهايته، قبل أن أنعرج يمينا، توجهت إلى معرض الصناعة التقليدية، حيث تعرفت على بعض الصانعات وعلى أطر محو الأمية، كانوا في منتهى اللطف واللباقة.
وقبل دخولي الى الخيمة، التي ستشهد الاحتفالات، تجولت حولها، ووقفت خلفها لفترة، حيث رجال الوقاية المدنية، والنادلون والقوات المساعدة، كنت أتفحص وجوه القادمين، جلهم اسر بسيطة، قادمة للاحتفال وتغيير الجو، نساء مرحات وأطفال يشاكسون بعذوبة، وآباء يدخلون النساء عبر البوابة الخلفية قبل أن يدلفوا البوابة الأمامية مع أصدقائهم وجيرانهم.
دخلت القاعة عندما اقترب دخول الوفد الرسمي، اخترت مكانا قريبا من المنصة، كما العادة، حتى أتمكن من التركيز في المداخلات والكلمات، وجدت نفسي حول مائدة بالمنتصف، رفقة فتيات ونساء رحبوا بي بحفاوة، وخلفي يصدح صوت أحد ابناء الاقليم المتميزين، أوتي الفصاحة وحسن البيان، معلنا عن بداية فقرات الحفل.
سارت الفقرات بسلالة وانسجام، احتفال بالمتفوقين وتتويج وتكريم وتوقيع اتفاقيات ستعود بالنفع على ابناء المنطقة و…”فجأة”، سمعنا دويا هائلا بالقرب من خيمة الاحتفالات، صوت نعرفه نحن ابناء الصحراء تمام المعرفة، إنها قذائف وغدر وكثير من العداء.
انتفض الآباء والشيوخ الذين فصلتهم طاولات الخيمة عن ابنائهم وزوجاتهم، فزع الوافدون من شمال المملكة، الذين كانوا يسمعون فقط عن “البوليساريو” ولم يتشرفوا من قبل بمعرفتهم عن قرب، والبعض دفعه الفضول للخروج للوقوف على ما حدث، فلم تكن تفصلنا إلا أمتار عن مكان سقوط القذائف، ولن تتاح لك كل يوم الفرصة لترى بأم عينك قصفا حقيقيا، وأغلب المتواجدين وطنيون ومن عشاق المغامرات.
بالنسبة لي، أول ما سمعت الدوي الأول، أصغيت السمع في محاولة لتحديد مصدره، كان قريبا جدا وهذا ما أكده جيراني، فضلت التزام مكاني، فقد استيقظت بداخلي تلميذة ” أدهم صبري” مدمنة روايات “رجل المستحيل”، وخيل لي بأن القصف ماهو الا محاولة لإخراجنا من الخيمة، ولست مستعدة للموت هاربة أو بطلقة في ظهري، كل شيء متوقع منهم، ماداموا لم يتورعوا عن استهداف المدنيين.
سلمت أمري بيد الخالق وأنا أعاود الاسترخاء على الكرسي بهدوء، مستندة بكوعي على الطاولة، أراقب ما يحدث حولي بتمعن، ثم شعرت بسلام غريب، وصفاء داخلي يبعث على الارتياح، يبدو أن عقود العيش بمدينة العيون، ابان سنوات الخطر، قد منحتنا مناعة و” تناحة” غريبة.
بعد أن اطمأن المتواجدون على أهلهم وذويهم، عاد الكل الى طاولاتهم، وارتفعت الهتافات الوطنية من حولنا، قبل أن تستأنف فقرات المهرجان، ويتحول ما حدث الى دعابات ونكت يمازح بها الحاضرون بعضهم بعضا، لحظات بعد ذلك ثم بدأ “الكرنفال”، الذي ينتظره الكل، لاسيما النساء والصغار، شرعت الفرق الموسيقية في الاستعراض، فتجاوب الحاضرون معها، تصفيقا ورقصا، وقد نسوا ما حدث منذ دقائق، ومن كل جهة من جهات المملكة، قدمت فرقة للتعريف بموسيقاها ولصلة الرحم مع ذرات رمال “المحبس”، الذي يبدو أنه يشكل عقدة للجارة الشرقية وميليشيات “البوليساريو”، أما قذائف الميليشيات المنتهية الصلاحية فكان ذلك مبلغها من العلم، ترويع النساء والأطفال والشيوخ..فقط.