إضاءة حول فيلم الاحتفال ذهابا و إيابا

“وكانت إقامتي بايولاتن نحو خمسين يوما وأكرموني أهلها وأضافوني (…) وأكثر سكان بها من مسوفة ولنسائهم الجمال الفائق وهن أعظم شأن من الرجال”

          ابن بطوطة  

يتناول الفيلم الوضع المتفرد للمرأة الصحراوية في مجتمع البيضان، الذي يشترط على الرجل حين زواجها أن يعاملها بالعدل وعدم الإساءة وعدم تضييع أي حق من حقوقها الثابتة.فبخلاف العديد من المجتمعات العربية يضع مجتمع البيضان أمر المرأة بيدها في حالة ما أراد الزوج أن يتزوج عليها وذلك في إطار احترام شرط “لا سابقة ولا لاحقة” المعمول به لدى بعض القبائل والذي تم تكريسه في المجتمع الحساني سيرا على نهج السلف، عملا بما قام به الرسول حين طلب منه علي ابن أبي طالب يد فاطمة الزهراء، واشترط عليه “أن لاسابقة ولا لاحقة، وعملا بما جاء به القرآن الكريم :” ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم، فلا تدروها كالمعلقة…” –الآية-.

هذا المنطلق المرجعي، كان عاملا رئيسيا ومساعدا في الحسم في قضية التعدد التي أثيرت أثناء النقاش حول مدونة الأسرة، باشتراطها على الراغب في التعدد موافقة الزوجة الأولى، ولعب حمداتي ماء العينين، الذي كان رئيسا للجنة، وهو قاض ومستشار سابق للرحل الحسن الثاني، دورا في هذا الشأن، هذه التفاصيل لم يتطرق إليها الفيلم، مكتفيا بالإشارة إلى هذا الشرط المعمول به لدى بعض القبائل بالمجتمع الحساني.  

وبناء عليه، فليس غريبا أن ينتفي العنف ضد النساء في الصحراء العالمة، بل يعتبر منبوذا ولو صدر من طفل صغير في حق أخته، كما يشير إلى ذلك الفيلم. من هذا الباب يتم الطلاق في المجتمع الصحراوي بشكل سلس وبدون تعقيدات، وفي إطار من المودة والاحترام بين الرجل والمرأة، كما لا ينظر المجتمع الحساني نظرة دونية للمطلقة أو يعتبرها وصمة عاركما هو الحال في باقي المجتمعات العربية والاسلامية، بل يعلي من شأنها ويحتفل بها ويحتضن أبناءها ويرفع من مهرها مقارنة بالبكر.

إن ثراء هذه القيم الانسانية والحضارية هو ما حفزنا لإنجاز هذا الفيلم، قصد التعريف بهذا التراث الانساني الذي يعلي من مكانة المرأة، الذي لا تنحصر تجلياته في الممارسة فقط، بل عبر جميع أشكال القول الشعري الحساني وفي الأمثال الشعبية، وفي كتابات الباحثين والرحالة والمستشرقين.

الفيلم يقدم غنى وثراء هذه القيم في شكل فرجوي اختار له حفل الزواج والطلاق كخيط موجه، لنعيش من خلاله أجواء وطقوس لها دلالتها الرمزية في تكريم المرأة، ك “الترواغ” و”تكاليع البند ” وإعداد خيمة العروس، وصولا إلى حفل الطلاق، ويتخلل هذا البناء فسحات للشعر، للغناء، للرقص، للنقاش والتحليل من خلال مساهمة باحثين وشيوخ من أهل المنطقة.

الفيلم من إخراج محمد البوحاري، علي بوصولة مساعد مخرج، مشرف على الإنتاج عبد الواحد المهتاني، مديرة الانتاج فاطمة عاشور، تنفيذ الانتاج خديجة الفتحي، مدير تصوير علي بن جلون، مهندس صوت المهدي سلي، المونتاج سهام الإدريسي، تصحيح الألوان محمد الإدريسي، قراءة التعليق عبدالله فتوح، كرافيزم مرحان عبد الصمد، السائق الأنصاري.

 

المعالجة الاخراجية

في اختيار الموضوع:

ليس الزواج أو الاحتفال بالمطلقة مجرد طقسين احتفاليين في المجتمع الصحراوي بل يمثلان مؤسسة لإنتاج القيم بشكل متمايز. من هنا يأتي اختيار هذين الطقسين لأهميتهما من الناحية الأنتربولوجية و النفسية.

الزواج والطلاق لدى أهل الصحراء و إن كانا نقيضين: اتصال وانفصال. فهما متكاملين و يصبان في بوثقة واحدة عنوانها : تكريم المرأة.

الترواغ: هو شكل فرجوي وتمثيل رمزي لقيمة المرأة. فلا المهر مهما غلا ولا المغريات بكل أشكالها كافية للحصول على العروس. بل البحث المضنى والشاق هو السبيل الوحيد للضفر بالحبيبة. الإحتفال بالمطلقة هو أهم مناسبة تبرز بشكل لا نظير له كيف يعامل أهل الصحراء نساءهم. هنا إشارة واضحة واحتفال بالحرية المستعادة.

الطلاق: الطلاق ليس عيبا في المجتمع الصحراوي المغربي، ولا تترتب عن فسخ العلاقة عداوة بين الطرفين، العائلة تحتضن الأطفال ولا تطالب الزوج بالنفقة، العائلة والقبيلة تعلي من شأن المطلقة، كما أنها هي محط أنظار شباب القبيلة ومبتغاهم، خلال هذا الحفل تحتد المنافسة بين العزاب للظفر بقلبها وهذا تفرد تقافي جذير بأن يعرف به خاصة وأنه سائر نحو الانقراض، فالإقبال على الزواج بالمطلقة في المجتمع الصحراوي الحساني، تحكمه قناعات بكون هذه الأخيرة راكمت خبرة وتجربة ونضج، وهو ما يجعل مهرها أغلى من مهر البكر.

 

البناءالسردي:

في اجماليته يصبو الشريط الى الجواب عن السؤال التالي كيف لمجتمع يعيش في وسط شحيح وقاسي أن ينتج هكذا قيم، قيم متقدمة جدا فيما يخص احترام المرأة وتمتيعها بامتيازات عدة؟.

ليس في الشريط لحظة إجابة بل تسلسل الأحداث وإضاءات الباحثين ترسم جميعها رويدا رويدا لوحة تعريفية بهذه الثقافة وهذه القيم.

يحمل طقس الترواغ في طياته صراعا دراميا يتم استغلاله لإقحام المشاهد وشده الى متابعة الشريط اعتمادا على عنصر التشويق الذي يضمنه التمويه المتكرر. يتماهى المشاهد وجماعته الباحثين عن المحبوبة وكأن العريس بطل فيلم رومانسي لكن بنهاية سعيدة بالطبع.

بالنسبة للاحتفال بالمطلقة فهناك أولا عنصر المفاجئة لدى المشاهد العربي خاصة والأجنبي عامة والذي يختزن صورة نمطية عن المرأة العربية. فبذل نبذها تحتفل الأسر ببنتها المطلقة محولة هذا الحدث المؤسف الى لحظة فرح. كما يحيل على صراع درامي وتشويقي للمنافسة من أجل استمالة قلب المطلقة من طرف شبان القبيلة أو غيرهم. بل حتى من محاولات الزوج السابق لاسترجاعها.

الاحتفالين إذن يحتويان على مادة درامية “صراع ومنافسة تسمح ببناء خط درامي متصاعد” وتكون الهيكل الرئيسي للسرد. فيما يكون إبراز مكانة المرأةهو الخيط الرفيع والموجه الرئيسي لزاوية النظر.

المعالجة البصرية

يرتكز التناول البصري في هذا الفيلم على عنصرين أساسين هما الانسان والمكان أي المرأة والصحراء.

  • المرأة : حرص صناع الفيلم على التقاط الألوان والإشكال الاحتفالية بشكل مقرب بالتركيز على التفاصيل (الملابس، الحلي، أدوات التزيين، الطبخ، الشاي، الآلات الموسيقية، حركات الرقص …) الكاميرا قريبة من الانسان لتفادي موقع المتفرج المحتشم. بل الكاميرا المحمولة والمتحركة داخل العرس تعيش مع الناس فرحتهم وتسمح بذلك للمشاهد أن يعيش العرس من الداخل. لأن الهدف هو تجاوز الوصف والنظرة الفلكلورية لسبر أغوار هذه الثقافة.
  •  
  • الصحراء : الصحراء صمت وامتداد للحرية والانطلاق، هنا تحضر الكاميرا التابثة المتأملة لهذا الوسط الممتد وهذه الفراغات التي تشكل مصدر إلهام لدى ناس الصحراء. الفضاء فسيح يغري بالتقاط الصور الجميلة ومناسبة للوقوف المتأني لمساءلة هذه البيئة ومعرفة كيف جعل منها الانسان الصحراوي مصدرا للتخيل الخصب.
  •  

المزج بين اللقطات المتحركة والمقربة وبين اللقطات الثابتة والعامة يترجم هاتين الركيزتين المرأة والصحراء ويضمن ايقاعا متميزا خاصا بهذا الشريط. والكل يروم تحقيق متعة بصرية تواكب متعة اكتشاف هذه الثقافة المتفردة. جمالية الصورة والإيقاع الذي يسمح به عنصر التشويق يضمنان التماهي والاستمتاع لدى المشاهد.بل حتى بالنسبة للمتدخلين هم ذوي حضور جسدي في الصحراء يتجاوز تسجيل المقابلات داخل وسط مغلق (مكتب مثلا). وهو ما يعتبر إضافة نوعية للشريط أن نضع الباحث في اتصال مباشر مع الناس موضوع اهتمامه. وهو ما ساهم في إغناء التدخلات بالتفاصيل الحية بدل اللغة العالمة.

التعليق :

جاء التعليق مكملا للتدخلات، يعطي بعض الاشارات التاريخية مثلا والتي بدونها لن تكتمل الصورة، وذلك بوضع الموضوع في إطاره العام. ويحتوي أيضا المعلومات التي لم يمكن بالإمكان تصويرها ولم نسع لأن تأتي على لسان الباحثين للتقليل من التدخلات وجعلها مقتضبة. وهذا ما يسمح بتفادي الملل الذي قد يتسرب الى المشاهد الذي يعيش عرسا ويكتشف ثقافة غنية بالالوان. إي أن الأسبقية كانت للصورة وللحدث.

 


قد يعجبك ايضا