جدلية الفكر والواقع في ديوان “صوت التراب” لمحمد بلمو

إن هذا المقال هو نص وثيق بنصوص أخرى، له أكثر من دلالة وقراءة، حيث تبدو لنا هذه القصائد مختلفة الطرح والبناء. فعناوين نصوص باكورة بلمو “صوت التراب” الصادرة سنة 2001، عبارة عن مدونة تؤرخ للهامش والمنسي، وتطرح أمكنة ولدت مع ولادة خيال الشاعر، وأزمنة تختلف حسب اختلاف المواقع والمواقف، ف”احتراق” و”قمر الهبوب” و”حفل تنكري” و”السجن أحيانا”، و”مطر”، و”حروب مشتهاة”، و”مساء أبيض”، و”ذات مساء” و”قطرة ضوء”، و”حنين”، و”رحيل” و”حفاوة” و”مائدة مثقلة” و”عراء” ثم “إلى آخر الطين”، كلها عنوانين مشحونة بالفرح والأنين، بالصمت والبياض، وهي أقرب إلى ذاتية الشاعر، حيث يحضر “كل شيء يوحي بالمساء” كما يقول، وحيث القصيدة التي تركت معطفها في المقهى، والكتاب الموغل في الغبار، أمينة التي تبحث عن شهد الكلمات، الفراشات تنتزه في مروج عينيها، النسمة الناهضة من شجر الخيبات. فهذه الكتابة هي مخيلة وطاقة تتأسس في التاريخ الشخصي عن ذلك الفكر وما يؤديه من وقفات ووظائف، لأن سؤال الشعر لا ينسحب على الأدب وحده بل على الفكر أيضا، فالشاعر بلمو يتقن توزيع الحروف والكلمات لكي يبني لنا هوية إبداعية تلتزم بشروط البوح، وذلك يأتي عبر تقنية أخرى وهي البعد الفلسفي الذي يجعله يواجه العالم المحاصر إما بالتباسات البياض والصمت أو بتعدد الأصوات والأقنعة، هكذا نرى أن العناوين المتعددة سواء تعلق الأمر ب “وهم” أو “حنين”، أو “سفر الخرير” أو “احتراق” أو “كل شيء، يوحي بالمساء”، فالشاعر يشكل لهذه النصوص وحدة مفتوحة ودالة بصرية على الغياب الذي يحمل الكثير من عمق المعاناة والترحال عبر الكلمة، لذا يقول: الضوء الضئيل ينسحب من نافذة الشاعر المتعجل لقاء البحر/ إلى آخر الدروب ينثر العتبات/ الصديق الذي يأكل حكايته بأصابع يائسة/ يناوش عشبا مهربا.

تبدو لنا هذه المقاطع كتمهيد، تكشف عن الشرارة التي تحدث عند الولادة، فهي تغادر العالم بعد معاناة مع الكتابة وحياة حافلة بالقول، لأن حجم العاطفة هو التي يؤجج الكتابة الفلسفية الدالة بوضوح، فالشاعر من هذه الزاوية قادر على الانطلاق من معاناته ومعاناة العالم التي تملأ شعره وتجعلنا نتسلل إلى عوالمه، مما يشجعنا على الاستمرار في معرفة هذا الصمود الشاعري عند المقارنة بالشعراء الآخرين. لعل هذا الديوان يمتح من الفلسفة والفكر ومن تاريخ الشعر واللغة، لتكون الذات الشاعرة عبارة عن مطية تعتمد التكثيف ومعاناة الإنسان، هذا على الرغم من أن بعض قصائده تستمر في إعطاء تصور كمدخل من أجل اكتشاف الخطاب المهيمن، إنه خطاب الطبيعة والمرآة والذات والكون، حيث تمضي هذه الأنساق لتكشف عن جوانب كثيرة، تبدو فيها الذات المبدعة نموذجا مثاليا، تصغي للأنين وترفع الخيال إلى المستحيل، بالطبع لم تكن الكتابة في هذا الديوان هي مهادنة بل هي حياة غير موازية تظل تحلم بأن تكون غيرها الخارج عن المواضعات الاجتماعية والترتيبات اليومية لهموم الشاعر. من خلال هذه المقارنة يتضح جليا أن الشاعر عانق التمرد العذري لكي يبني ثنائية مضادة ترتسم أمامنا في هذا الديوان.

يقول: تدور العقارب كبغل طحونة/ كلما دقت الساعة/ تيقنت/ وحدة الموت/ يستقبلنا بحفاوة. هكذا يظل الشاعر يبني الحروف بلون آدمي وبجرح مثقل بالألغام، يخلع عنه الحيرة لكي يدق باب البراءة، أما الإشارات الكتابية فتمدح كل إبداع يشيع جنازة الشاعر أثناء المغيب. هكذا تصير الأشياء والكلمات سجلا لا تترك للقلب موتا، حتى الريح تقتحم غرفة الشاعر فليس للوطن من أخماص لكي ينوب عن المعتوه ولكي يزيل أنياب الإعلانات، حتى الطين لا يفهم تداركه الفضول، حتى الأرض التي ولد فيها رحل عنها مترجلا بدعوات لا تظهر إلا في القصائد، وليس بوسعه أن يغير العالم لأن المعرفة مقيدة بالخفافيش، لا يستطيع الشاعر أن ينهض لكي يعبر عن هذا الأمل المغيب، فخطواته الإيقاعية مرتبطة بدروب متناهية، رغم أن الأصابع ممتدة نحو رقصة الغد، هكذا كان الاحتراق من كل جهة، حيث يقول: على شط القصيدة احترقت/ تساقطت شهبا/ ورمادا تسلقت سقف الذكرى/ فما أقبلت الرياح إلا لاشتهائي/ولم يبقى إلا دموع تكلست/ وآثار أقدام/ وطأت صحراء القلب/واختفت.

انطلاقا من هذا الخطاب الحفري الذي يتمحور حول الذات المبدعة، يجعلنا نستشف كيف أن المعرفة الشعرية تتوزع كاستراتيجية عبر التاريخ الإبداعي، وكتنظيم وضرورة ورغبة حيث تجعل الذات ترغب في بناء خطاب يرفض أن يكون للمعنى وصفا واحدا، على غرار فلسفات الذات كما يرى سارتر.

لأن الخطاب الشعري البلومي يتداخل ويتكامل في إطار هذه النصوص العلاماتية والتخييلية مما لا يمنع من تبني هذه القراءة النقدية المضاعفة كأداة إجرائية لا غير، بل تبدو لنا قراءة معرفية وعاشقة تنتهي بترميمات مأساوية. فشعر بلمو يكتسي طابعا دراميا حيث يجعلنا نستمع إلى صمت المفكر والفيلسوف والشاعر، كقراءة ضدية  تستقرئ القراءة المغايرة التي تنم عن عمق في التفكير والتفكيك، وهذا ما جعله أيضا يرسم لنصوصه مؤشرات دالية تنص على تأويلات يخضع لها هذا الفكر دون تصنيف موحد. فالخطاب عنده هو ممارسة وأشكال تحاول أن تعيد التاريخ وكتابته دون وقوف عند الفجوات والثقوب النصية التي تربطها بالذات المبدعة.

تذهب نصوص محمد بلمو إلى القول بأن التناقضات التي يحتويها الخطاب الشعري ليست من جنس واحد لهذا فهي تميز بين التناقضات المشتقة التي تعتري تشكُّلِيَة خطابية واحدة دون أن تمس نظامها المعياري، وتناقضات ذاتية ليست عبارة عن أحداث بل هي عناصر إيحابية داخل الممارسة الشعرية. ولنا عودة للموضوع

الدكتور الغزيوي أبو علي


قد يعجبك ايضا